مع نسمات شهري رجب وشعبان، ومن بعدهما رمضان تهب رياح الخير- وهي لا تنقطع أبدًا- على النفوس المؤمنة؛ فتوقظ فيها مشاعر الإيمان والتقوى، وتشد عزائم الطاعة والعبادة، وتنهض إرادات التغير؛ تغير النفس والقلب والضمير, وتغير الحال من التقصير والضعف إلى الحركة والعمل، ومن الكسل والتراخي إلى النهوض والعزيمة، فتتغير النفس، وتتغير الحياة، وتتنزل الرحمات من الله تعالى, ويختار الله من عباده من استعد لاغتنام مواسم الخير وأيام العبادة وليالي القرب من الله؛ فأعد عدته، وشحذ همته، وجدَّد نيته، واغتنم الفرصة، ونادى على نفسه، وقال: إني لأجد ريح الجنة دون شعبان ومن بعده رمضان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها؛ لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدًا"، (رواه الطبراني في الأوسط والكبير).
فكثير من النفوس تنتظر مثل هذه اللحظات الإيمانية لتركب مع قافلة الخير التي تسير إلى الله تعالى, وهذه الأيام المباركة بما فيها من صيام، وقيام، وتلاوة للقرآن، وتدبر فيه، ونزول الرحمات من السماء؛ هي أيام سير إلى الله تعالى- والسير إلى الله يكون بالقلب- كما قال يحيى بن معاذ: (إنما السير سير القلوب؛ تقطع مفاوز الدنيا بالأقدام، وتقطع مفاوز الآخرة بالقلوب).
وشهر شعبان من الشهور التي اهتمَّ بها الإسلام ورسول الإسلام، وخصَّها بنوع من العبادات؛ مثل الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن؛ وذلك لفضل هذا الشهر الكريم ومكانته عند الله تعالى، وذلك لأنه:
1- شهر يقع بين رجب ورمضان؛ ورجب من الأشهر الحرم التي تؤدَّى فيها غالبًا العمرة وزيارة البيت ال
، فأمَّنَ الله الناس ليوأدوا هذه الشعيرة، ورمضان هو شهر الصيام والقيام والقرآن، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلفت النفوس إلى مكانة هذا الشهر، فقال صلى الله عليه وسلم- وهو يعلِّل كثرة صيامه في هذا الشهر لمن سأله-: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان, وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عزَّ وجلَّ, فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، (رواه الإمام أحمد وحسَّنه الألباني في صحيح النسائي).
2- شهر ترفع فيه الأعمال؛ فهو ختام عمل عام قد مضى يرفع فيه هذا العمل إلى الله تعالى, والأعمال ترفع كل يوم مع الفجر ومع العصر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, فيجتمعون في صلاة الصبح, وصلاة العصر, فيسأل الذين باتوا فيكم- وهو أعلم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون, وتركناهم وهم يصلون" (رواه البخاري).
وكذلك تعرض الأعمال على الله مرتين في الأسبوع في يومي الإثنين والخميس، قال صلى الله عليه وسلم: "تُعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس؛ فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم" (رواه الترمذي وصححه الألباني).
وكذلك تعرض أعمال السنة على الله في شهر شعبان من كل عام، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: "وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عزَّ وجلَّ".
فالمسلم يقف مع نفسه وقفة تأمل وتدبر مع رفع الأعمال إلى الله في هذا الشهر الكريم، فهو نهاية عام من الطاعة والعبادة، وكذلك بداية عام جديد ينبغي فيها- أي الوقفة- إجابة داعي الخير، وتلبية نداء الحق من أجل تزكية النفس وتطهير القلب، وتنقية الفؤاد من سوى الله، ونشر دعوة الخير بين الخلق، وفتح صفحات جديدة في سجل الحق؛ لتسطر فيها الحسنات، وتمحى من غيرها السيئات.
3- مقدمة لشهر رمضان؛ فتستعد فيه النفوس لاستقبال نفحات الله في شهر القرآن والصيام والقيام، وتزحف فيه عوامل التقوى إلى القلب، وتجتمع فيه جنود الحق لمقاومة أعداء الخير, ولذلك تأخذ المقدمة حكم ما بعدها, فيأخذ شعبان حكم فضل رمضان عندما يكون نقطة استعداد له.
ولذلك أقترح هذا البرنامج ليكون نقطة بداية وانطلاق لاغتنام مواسم الخير، ويتناول:
1) عقد النية وإخلاص الوجهة وشحذ الهمة, فهمُّك على قدر ما أهمك.
بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفرص
فابتدر مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الفجر قنص
لا بد من اغتنام الفرصة، وعدم تضييع الوقت، فالعمر قصير، والعاقل من أدرك حق الله عليه في مثل هذه الأيام، يقول ابن القيم رحمه الله: (أعظم الربح أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها، وانفع لها في معادها).
2) تقديم التوبة؛ فالتوبة كما يقول ابن القيم رحمه الله: (نهاية كل عارف، وغاية كل سالك, وكما أنها بداية فهي نهاية. والحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية. بل هي في النهاية محل الضرورة).
والتوبة هي أول طريق الصلاح والإصلاح. قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)﴾ (طه).
وهي توبة عملية تدعو صاحبها إلى العمل من أجل إصلاح نفسه ودعوة الآخرين وإصلاحهم، يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى- وهو يتحدث حول صفات المؤمنين في سورة التوبة ﴿التَّائِبُونَ﴾ (التوبة: من الآية 112)-: والتوبة شعور بالندم على ما مضى، وتوجه إلى الله فيما بقي، وكف عن الذنب، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل، كما يحققها بالترك، فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح... توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح.
3) الإقبال على القرآن تلاوةً وحفظًا ومراجعةً وتدبرًا: قال ابن رجب رحمه الله: (ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان, وتعتاد النفوس بذلك على طاعة الرحمن. وروينا بإسناد ضعيف عن أنس, قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرأوها.
وقال سلمة بن كهيل: كان يقال: (شهر شعبان شهر القراء). وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: "هذا شهر القراء".
فلنقبل على القرآن مراجعةً واستعدادًا للصلاة به في شهر القرآن شهر رمضان.
4) صيام الإثنين والخميس؛ حتى ننال رفع العمل إلى الله ونحن صائمون الإثنين والخميس، وإدراك ذلك في شهر شعبان.
5) قيام الليل فهو شرف المؤمن، وأساس السير إلى الله، وبداية التربية الروحية والإيمانية الصحيحة، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ (1)قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2)﴾ (المزمل).
6) الاعتكاف والمكث في المسجد من الفجر إلى الشروق؛ حتى ننال أجر عمرة وحجة تامة تامة.
7) صلاة الضحى أربع ركعات أو ثماني ركعات، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى قال: يا ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره" (رواه الإمام أحمد).
8) الدورة الروحية الفردية: وتكون في الأيام البيض من شهر شعبان (13, 14, 15).
ونوصي فيها بالآتي:
1- صلوات الفرائض جماعة.
2- إقامة السنن الرواتب كلها.
3- المحافظة على سنة الضحى ثماني ركعات، وقيام الليل والوتر وصلاة التسابيح مرة.
4- تلاوة ثلاثة أجزاء يوميًّا من القرآن.
5- الذكر المطلق والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 1000 مرة كحد أدنى.
6- صيام الثلاثة أيام البيض.
7- المكث في المسجد من الفجر حتى الضحى.[center]